فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

و{الَّذين كفروا} شائع في اصطلاح القرآن أن يراد به المشركون، واللفظ صالح بالوضع لكلّ كافر من مشرك وكتابي، مظهر أو منافق.
والردّ على الأعقاب: الارتداد، والانقلاب: الرجوع، وقد تقدّم القول فيهما عند قوله: {أفأين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران: 144] فالظاهر أنه أراد من هذا الكلام تحذير المؤمنين من أن يُخامرهم خاطر الدخول في صلح المشركين وأمانهم، لأنّ في ذلك إظهار الضّعف أمامهم، والحاجة إليهم، فإذا مالوا إليهم استدرجوهم رويدًا رويدًا، بإظهار عدم كراهية دينهم المخالف لهم، حتَّى يردّوهم عن دينهم لأنَّهم لن يرضوا عنهم حتَّى يرجعوا إلى ملّتهم، فالردّ على الأعقاب على هذا يحصل بالإخارة والمآل، وقد وقعت هذه العبرة في طاعة مسلمي الأندلس لطاغية الجلالقة.
وعلى هذا الوجه تكون الآية مشيرة إلى تسفيهِ رأي من قال: لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانًا من أبي سفيان كما يدلّ عليه قوله: {بل الله مولاكم}.
ويحتمل أن يراد من الطاعة طاعة القول والإشارة، أي الامتثال، وذلك قول المنافقين لهم: لو كان محمد نبيئًا ما قُتل فارجعوا إلى إخوانكم وملّتكم.
ومعنى الردّ على الأعقاب في هذا الوجه أنه يحصل مباشرة في حال طاعتهم إيّاهم. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

وقيل: عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم؛ فإنه يجر إلى موافقتهم على دينهم، لاسيما إن طالت مدة الاستئمان.
قلت: وهذا هو السبب في ارتداد من بقي من المسلمين بالأندلس حتى رجعوا نصارى، هم وأولادهم، والعياذ بالله من سوء القضاء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من فوائد الألوسي:
قال رحمه الله:
{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} شروع في زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان فضائله، وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الإعتناء بما في حيزه، ووصفهم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه والمراد من الذين كفروا إما المنافقون لأن الآية نزلت كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه حين قالوا للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم والتعبير عنهم بذلك قصدًا إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم، وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بإطاعتهم الإستكانة لهم وطلب الأمان منهم وإلى ذلك ذهب السدي، وإما اليهود والنصارى فالمراد حينئذ لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في ذلك، وإليه ذهب ابن جريج، وحكي أنهم كانوا يلقون إليهم الشبه في الدين ويقولون: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا حقًا لما غلب وَلمَا أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يومًا عليه ويومًا له فنهوا عن الإلتفات إليها، وإما سائر الكفار.
وذهب إلى جواز ذلك بعض المتأخرين، وأتى بإن للإيذان بأن الإطاعة بعيدة الوقوع من المؤمنين.
{يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} أي يرجعوكم إلى أول أمركم وهو الشرك بالله تعالى والفعل جواب الشرط.
وصح ذلك بناءًا على المأثور عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن الكلام معه في قوة {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} في قولهم: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم، ويؤول إلى قولك: إن تدخلوا في دينهم تدخلوا في دينهم وفيه اتحاد الشرط والجزاء بناءًا على أن الإرتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور، وقيل: إن المراد بالإطاعة الهمّ بها والتصميم عليها أي إن تصمموا على إطاعتهم في ذلك تردوا وترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا أبلغ في الزجر إلا أنه بعيد عن اللفظ، وجوز أن تكون جوابيته باعتبار كونه تمهيدًا لقوله تعالى: {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} أي فترجعوا خاسرين لخير الدنيا وسعادة الآخرة وذلك أعظم الخسران. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {بَلِ الله مولاكم وَهُوَ خَيْرُ الناصرين}:

.قال الفخر:

والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النصرة من الله تعالى، لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده، ثم بين أنه خير الناصرين، ولو لم يكن المراد بقوله: {مولاكم وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} النصرة، لم يصح أن يتبعه بهذا القول. اهـ..

.قال الألوسي:

{بَلِ الله مولاكم} إضراب وترك للكلام الأول من غير إبطال والمعنى ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ولا ينصرونكم بل الله ناصركم لا غيره.
{وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} لأنه القوي الذي لا يغلب والناصر في الحقيقة فينبغي أن يخص بالطاعة والاستعانة، والجملة معطوفة على ما قلبها. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن عاشور:

و{خير النَّاصرين} هو أفضل الموصوفين بالوصف، فيما يراد منه، وفي موقعه، وفائدته، فالنصر يقصد منه دفع الغلب عن المغلوب، فمتى كان الدفع أقطع للغالب كان النصر أفضل، ويقصد منه دفع الظلم فمتى كان النصر قاطعًا لظلم الظالم كان موقعه أفضل، وفائدته أكمل، فالنصر لا يخلو من مدحة لأنّ فيه ظهور الشَّجاعة وإباء الضيم والنجدة.
قال ودّاك بنُ ثمَيْل المازني:
إذا استنجدوا لمْ يسْألوا من دعاهم ** لأية حرب أم بأي مكان

ولكنّه إذا كان تأييدًا لظالم أو قاطع طريق، كان فيه دَخَل ومذمّة، فإذا كان إظهارًا لحقِّ المحقّ وإبطالِ الباطل، استكمل المحمدة، ولذلك فَسّر النَّبيء صلى الله عليه وسلم نصر الظالم بما يناسب خُلُق الإسلام لمّا قال: «انصر أخاك ظالمًا ومظلومًا» فقال بعض القوم: هذا أنصره إذا كان مظلومًا فكيف أنصره إذا كان ظالمًا؟ فقال: «أنْ تنصره على نفسه فتكفّه عن ظلمه». اهـ.

.قال أبو حيان:

{وهو خير الناصرين} لما ذكر أنه مولاهم، أي ناصرهم ذكر أنه خير ناصر لا يحتاج معه إلى نصرة أحد، ولا ولايته.
وفي هذا دلالة على أن من قاتل لنصر دين الله لا يخذل ولا يغلب لأن الله مولاه.
وقال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم} {إن ينصركم الله فلا غالب لكم}. اهـ..

.قال الفخر:

وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه:
الأول: أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد، والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده، ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه، والثاني: أنه ينصرك في الدنيا والآخرة، وغيره ليس كذلك، والثالث: أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار} [الأنبياء: 42] وغيره ليس كذلك.
واعلم أن قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك، لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]. اهـ.

.قال الطبري:

وإنما قيل: {بل الله مولاكم}، لأن في قوله: {إن تطيعوا الذين كفروا يردُّوكم على أعقابكم}، نهيًا لهم عن طاعتهم، فكأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لا تُطيعوا الذين كفروا فيردُّوكم على أعقابكم، ثم ابتدأ الخبر فقال: {بل الله مولاكم}، فأطيعوه، دون الذين كفروا، فهو خيرُ من نَصَر.
ولذلك رفع اسم {الله}، ولو كان منصوبًا على معنى: بل أطيعوا الله مولاكم، دون الذين كفروا كان وجهًا صحيحًا.
ويعني بقوله: {بل الله مولاكم}، وليّكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا، {وهو خير الناصرين}، لا من فررتم إليه من اليهود وأهل الكفر بالله. فبالله الذي هو ناصركم ومولاكم فاعتصموا، وإياه فاستنصروا، دون غيره ممن يبغيكم الغوائل، ويرصدكم بالمكاره. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئًا وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ الله مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)}.
التفسير: أنه سبحانه لما ذكر فوائد مداولة الأيام وحكمها، أتبعها ما هو السبب الأصلي في ذلك فقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} بدون تحمل المشاق. و{أم} منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار و{لما} بمعنى لم مع زيادة التوقع. وليس المراد نفي العلم بالمجاهدين ولكن المراد نفي المعلوم. وإنما حسن إقامة ذلك مقام هذا لأن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه، فلما حصلت بينهما هذه المطابقة حسن إقامة أحدها مقام الآخر. تقول: ما علم الله في فلان خيرًا أي ما فيه خير حتى يعلمه. فحاصل الكلام لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم تجاهدوا بعد. وإنما أنكر هذا الحسبأن لانه تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبين وجوه المصالح المنوطة بها في الدين والدنيا. وإذا كان كذلك فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال مثل هذه الطاعة. والواو في قوله: {ويعلم الصابرين} واو الجمع في قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. كأنه قيل: إن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان فليس كل من أقر بدين الله كان صادقًا، ولكن الفيصل فيه تسليط المكروهات ومخالفات النفس فإن الحب هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء. وقيل: التقدير أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن يعلم الله المجاهدين وأن يعلم الصابرين؟ ووجه آخر وهو أن يكون مجزومًا أيضا لكن الميم لما حركت للساكنين حركت بالفتحة إتباعًا للفتحة قلها.
وهذا كما قرئ {ولما يعلم الله} بفتح الميم إلا أن يراد ولما يعلمن بالنون الخفيفة ثم حذفت. وقرأ الحسن {ويعلم} بالجزم على العطف. وروي عن أبي عمرو {ويعلم} بالرفع على الحال كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون {ولقد كنتم تمنون الموت} الخطاب فيه للذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة. ويراد بالموت سببه وهو الجهاد والقتل. قال المحققون: أنه لم يكن تمنيهم للموت تمنيًا لأن يقتلوا لأن قتل المشركين لهم كفر. ولا يجوز للمؤمن أن يتمنى الكفر أو يريده أو يرضى به، بل إنما تمنوا الفوز بدرجات الشهداء والوصول إلى كراماتهم. وشبهوا ذلك بمن شرب دواء الطبيب النصراني فإن غرضه حصول الشفاء. ولا يخطر بباله جر منفعة وإحسان إلى عدو الله وتنفيق صناعته، قالت الأشاعرة هاهنا: من أراد شيئًا أراد ما هو من لوازمه، وثواب الشهداء لا يحصل إلا بالشهادة، ولا ريب أنه تعالى أراد إيصال ثواب الشهداء إلى المؤمنين، ولهذا ورد من الترغيبات ما ورد فأراد صيرورتهم شهداء، ولن يصيروا شهداء إلا إذا قتلهم الكفار فلابد أن يريد أن يقتلهم الكفار وذلك القتل كفر ومعصية، فثبت أنه تعالى مريد للكفر والإيمان والطاعة والعصيان.
{من قبل أن تلقوه} من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته وصعوبة مقاساته.
{فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} قال الزجاج: أي وأنتم بصراء كقولهم: رأيته بعيني أي رأيتموه معاينين حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وشارفتم أن تقتلوا. ويحتمل أن يراد رأيتم إقدام القوة وشدة حرصهم على قتلكم وعلى قتل الرسول، ثم بقيتم أنتم تنظرون إليهم من غير جد في دفعهم ولا اجتهاد في مقاتلتهم، وفيه توبيخ لهم على تمنيهم الجهاد وعلى إلحاحهم في الخروج إليه، ثم انهزامهم وقلة ثباتهم عنده. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالشعب أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ولا ينتقلوا سواء كان الأمر لهم أو عليهم. فلما وقفوا وحملوا على الكفار هزموهم وقتل علي عليه السلام طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم، والزبير والمقداد شدا على المشركين، ثم حمل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فهزموا أبا سفيان. ثم إن بعض القوم لما رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة، وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم، وكثر القتل في المسلمين، ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر وكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة.
واحتمل طلحة بن عبيد الله رسول الله ودافع عنه أبو بكر وعلي عليه السلام. وظن ابن قميئة أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد قتلت محمدًا، وصرخ صارخًا ألا إن محمدًا قد قتل. قيل: وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله صلى الله عليه وسلم فانكفؤا، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: إليّ عباد الله، حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فنزلت {وما محمد إلا رسول} أي مرسل. قال أبو علي: وقد يكون الرسول في غير هذا الموضع بمعنى الرسالة أي حالة مقصور على الرسالة لا يتخطاها إلى البقاء والدوام {قد خلت من قبله الرسل} فسيخلو كما خلوا. وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فكونوا أنتم كذلك لأن الغرض من إرسال الرسل التبليغ وإلزام الحجة لا وجودهم بين أممهم أبدًا {أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} الفاء لتسبيب الجملة الشرطية عن الجملة التي قبلها، والهمزة لإنكار الجزاء لأنه في الحقيقة كأنه دخل عليه. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمدًا أو قتل؟ وسبب الإنكار ما تقدم من الدليلين: أحدهما أن الحاجة الى الرسول هي التبليغ وبعد ذلك لا حاجة إليه، فلا يلزم من قتله أو موته الإدبار عما كان هو عليه من الدين وما يلزم كالجهاد. وثانيهما القياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك الدين. والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لم يرجعوا عن دينه وإنما ذكر القتل. وقد علم أنه لا يقتل لكونه مجوّزًا عند المخاطبين. وقوله: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] لو سلم أنه متقدم في النزول فإنه مما كان يختص بمعرفته العلماء منهم على أنه ليس نصًا في العصمة عن القتل، بل يحتمل العصمة من فتنة الناس وإضلالهم. وقوله: {إنك ميت} [الزمر: 30] يراد به المفارقة إلى الآخرة بأي طريق كان بدليل {وإنهم ميتون} [الزمر: 30] وكثير منهم قد قتلوا. ويمكن أن يقال: صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق جزأيها لصدق قولنا إن كانت الخمسة زوجًا فهي تنقسم بمتساويين مع كذب جزأيها. ومعنى أو هو الترديد والتشكيك أي سواء فرض وقوع الموت أو القتل فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الإدبار أو الارتداد {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا} بل لا يضر إلا نفسه، وهذا كما يقول الوالد لولده عند العتاب إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض. يريد أنه يعود ضرره عليه.